["كتب" هي سلسلة على صفحات "جدلية" نستضيف فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل من الكتاب]
علي عبد الأمير عجام، "حنين بغدادي" دار الأديب، عمان، ٢٠١٣.
جدلية: كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
علي عبد الأمير عجام: حين عدت الى بغداد في نيسان (ابريل) العام 2003 هالني الخراب العميم الذي سببه الغزو الاميركي بما في ذلك احد اكثر فصوله مأسوية : نهب مؤسسات الدولة العراقية وحرقها، فضلا عن تحول المعالم الاساسية للمدينة، الشوارع والميادين، المسارح، دور السينما، الى امكنة خاوية لا حياة فيها، مع انها كانت قبل مغادرتي البلاد العام 1994 تكتظ بالحياة، على الرغم من قسوة تأثير العقوبات الدولية المترتبة على غزو الكويت. هنا بدأت باستعادة بغداد التي اعرف، بغداد التي هذبتني وعلمتني، وفيها عرفت اجمل الانغام، وافخم العروض المسرحية والسينمائية، بغداد بتقاليد مدنية. صحيح ان تلك التقاليد بدأت بالتراجع التدريجي منذ الحرب العراقية الايرانية 1980-1988، لكنها ظلت حاضرة وتطل حتى وان بطريقة خجلى، لا ما وجدته من مدينة خربة او تكاد. وكانت فصول كتاب " حنين بغداد" اخذت بالتتابع ولكن بعد ان غادرت بغداد مرة ثانية والهجرة للعمل الاعلامي في الولايات المتحدة. وبعض ابرز فصول الكتاب نشرته في موقع " كيكا" الثقافي، قبل أن اواصل الامر في موقعي الشخصي، وصولاً إلى ضمها في كتاب ورقي عبر "دار الاديب" العراقية المهاجرة مثلي ولكن إلى العاصمة الاردنية عمّان.
جدلية: ماهي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب ؟
ع.ع.ع: كتابي "حنين بغدادي"، ليس حنيناً شخصياً. هو دفاع عن ذاكرة عراقية. هو حنين إلى مكان شخصي اكتظ بكل هذه الوجوه والأصوات والأوراق والأجساد التي كتبت وغنّت ورقّت وتألمت وابتهجت وتبددت، إنه حنين إلى مكان عراقي مشع بالأمل، بالفكرة الانسانية الصافية الخلاّقة، وحين أستعيده إنما أستعيد ما كان فيه من احتمالات نمو وتطور كانت ستشع لولا بشاعات سياسية، ولولا أمراض اجتماعية. إنه حنين للجمال الذي مع تصاعد البشاعات السياسية والامراض الاجتماعية اليوم، لن يكون إلا أثراً بعد عين، في بلاد كانت إلى نحو خمسين عاماً خلت، تشع بالجمال الطبيعي والانساني.
إنه ليس كتاباً في الحسرة على الماضي أو التّرحم عليه، وليس مجرد الحنين إلى أيام الشباب الاولى ومحاولة استعادتها، لكنه كتاب الحنو والتلطف على المشهد الذي نما فيها أول حب، وكتاب إزجاء التحية والاحترام لأهل ولمعلمين وبناة ومربين ومريدي أفكار ومعماريين وكتاب وحالمين وأناس بسطاء عاديين، وجنود وغرباء وحراس أمل عرفتهم عن قرب وجعلوا الحياة أكثر نضارة وشباباً، وما انفكوا، عبر استمرار فكرتهم اليوم وغداً حتى وإن بمستويات نادرة، يجعلونها أوسع من توقيتات للقفز بين حقول الألغام التي إتسعت منذ نحو ثلاثين عاماً حتى غطت البلاد باكملها أو كادت.
إنه ليس "البكاء على أطلال" بغداد المعاصرة، إنه دفاع عن ذاكرة المدينة وحكاياتها الغنية حياتياً ومعمارياً يوم كانت مدينة مفتوحة للجديد والمؤثر والعميق والحضاري، حتى وإن جاء في سياق حكايات شخصية حين بدأت معرفتي بها منذ أوائل ستينيات القرن الماضي قادماً اليها من مدينة صغيرة تغفو على نهر الفرات، دفاع عن فكرتها التي خنقتها موجات الإرهاب والكراهية وعزلتها جدارن الفصل الطائفية اليوم، دفاع عن موسيقاها وثقافة إنسانها الذي كان مجبولاً على المعرفة والاكتشاف، قبل أن تنهكه أنظمة القمع والحروب والحصارات وحملات الكراهية، وتصيب في روحه مكامن الأمل والتفتح، لتوصله اليوم إلى قناعة بأن مكانه هذا لا يمكن أن يكون إلا مداراً مفتوحاً للظلم واليأس والتعب. إنه ليس حنيناً لهندسة بناء وتقاليد اجتماعية عراقية قاربت الرفعة في الملبس وتذوق الثقافة، إنه دفاع عن تلك اللمسات الإنسانية الراقية لابن بلادي، كي يستعيد العراقي اليوم بعض ملامحها ويقارنها بما أوصلت إليه الحروب والقمع والحصارات والأفكار المطلقة والمحرمات، "وطنية" كانت أم دولية.
"نوستالجيا" أو "حنين" هنا اذن. . . عنصر مؤثر في تشكيل وسيلة للتفكير في وقت ومكان معينين، مثلما هو كعمل على الذاكرة تصبح نقطة تحول وقوة للبناء. وهي هنا كانت رحلة أركيولوجية (حفر اثري) في طبقات الذاكرة المعاصرة لمدينة بغداد.
لذا فهذا الكتاب ليس حنيناً شخصياً لبغداد ولا ذاكرة شخصية، إنه كتاب في التبصر وإثارة الأسئلة عبر الدفاع عن ذاكرة عراقية ومرحلة كانت تعد بالكثير. إنه ليس حنيناً لعمر شخصي أيام كانت الارض لا تسعني وأنا في مقتبل العشرينات، ذلك أنني إلى اليوم بقلب فتى عشريني لا تسعه الارض، مثلما هو ليس بكائية لوطن "شخصي" يكاد ينتزع منا، نحن الذي نحبه وندرك قيمته ونكاد نراه يتبدد ولا نحرك ساكنا من أجله، إنه الدفاع عن جرح غائر لا يندمل، اسمه العراق الجميل، الذي سيظل نابضاً وإن كان بالكثير من الألم والقليل من الأمل.
جدلية: ماهي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
ع.ع.ع: أبرز ما شكل تحدياً لي، هو أن أرشيفي الضخم، مبدد بين بغداد وبيت أهلي في الحلة ( بابل)، ومقر إقامتي لنحو عقد كامل في العاصمة الأردنية، ومكان إقامتي الجديد، بولاية فيرجينيا الاميركية، وهو ما جعلني أتعب كثيراً في الحصول على معلومات دقيقة، تتعلق بأمكنة وأسماء شخصيات، ومحال تجارية ودور سينما ومطاعم كانت إلى حين تشكل علامات فارقة في حياة بغداد اليومية. وشكلت لي استجابات من اصدقاء كتبت لهم رسائل مستفسراً فيها عن تلك المعالم، مادة مهمة بغنى تفصيلاتها، بما جعلني قادراً على تعويض ما خسرته في شتاتي الروحي والفكري والمكاني.
جدلية: كيف يتموضع هذا الكتاب في الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
ع.ع.ع: يقع الكتاب ضمن حقل بات يسمى " ذاكرة المكان" أكثر من كونه "مذكرات"، وما فيه من نسق سردي، يتصل بروح كانت حاضرة في نتاجي الأدبي الأصلي: الشعر، فنصوصي بحسب قراءات نقدية عدة، تتوفر على جانب سردي واضح، وهو كما أراه نابع من كون السرد كما في الرواية والقصة، كان ولا يزال، من مصادر معرفتي الادبية الاساسية.
جدلية: ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
ع.ع.ع: هذا هو أول كتاب لي، لا علاقة له بالشعر ونقد الموسيقي، ولي فيهما أربعة كتب، ثلاثة في الشعر : "يدان تشيران إلى فكرة الالم" بغداد 1992، و"خذ الأناشيد ثناء لغيابك" عمان 1996، و" بلاد تتوارى عمان 2005، وواحد في نقد الموسيقى: "فصول في الموسيقى المعاصرة" بغداد 1990. ومع هذا البعد، إلا أنني أجده يتضمن الكثير من "الشعرية"، فضلاً عن كون استعادة الحياة الموسيقية في بغداد، كانت حاضرة بقوة في فصوله.
جدلية: من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
ع.ع.ع: أفرحني أن الكتاب أقبل عليه قراء من أجيال جديدة في بغداد، لم تعرف المدنية في عز صعودها الثقافي والاجتماعي والعمراني، أجيال بدت لها معالم بغداد، كما عكسها الكتاب وصورها، مثلما أفرحني أن هناك تساؤلات من نوع: هل كانت بغداد فعلاً على هذا النحو من الجماليات العمرانية والمدنية والثقافية؟ أثارها الكتاب، وهو الهدف الأساس الذي سعيت إليه من خلال اصداره: الدفاع عن ذاكرة المدنية، والتأكيد على أن الخراب الذي انتهت إليه ليس مساراً طبيعياً، بل إنها دفعت إليه قسراً، في محاولات منظمة لقتلها.
جدلية: ماهي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
ع.ع.ع: استعد الآن لطبع أربعة كتب، الأول هو في الشعر: "كتاب سيدوري" وهو عبارة عن نصوص في الحب والوجد. والثاني هو في نقد الموسيقي :" غريبة الروح" ، وينتظم في قراءة الموسيقى والالحان العراقية بوصفها مؤشراً لتحولات البلاد السياسية والاجتماعية والثقافية 1950-2000 . والثالث هو " في مهب العراق" ويتضمن مقالات وتحقيقات صحافية كتبتها خلال نحو عقدين توثق تحولات العراق الرهيبة 1991-2010. والرابع هو مذكراتي عن ثلاث حروب عشتها وبعنوان " مهزوم... لكنني لم أجد عدواً يليق باستسلامي له".
فصل من الكتاب
البحث عن فيروز في بغداد
والشتاء يكاد ينهي العام 1975، سهر ستة أصدقاء في بيت صديق سابع بـ"حي الشعب" الضاحية الشمالية للعاصمة العراقية، وكعادة الشيوعيين العراقيين أيام تمتعهم بحرية العمل بعد اتفاق "الجبهة الوطنية" كانت الليلة نقاشاً محتدماً، ثم مالبث إيقاعها أن انعطف شعراً وأغنيات، وكان لا بد من فيروز التي كان الشيوعيون العراقيون رسل محبتها ودعاة فنها الرفيع، بل إن أغنيات في لقاءاتهم غير فيروز كانت تبدو خروجاً على النص، ومن رقة "رجعت الشتوية" إلى الحزن العميق في "ما في حدا"، ومن "ليالي الشمال الحزينة" إلى صباح يشرق في كل حين مع "بحبك ما بعرف" وصولاً إلى غناء قصائد كانت توجتها صاحبة " الأندلسيات" بنشيد ما انفك أجمل ماغني عن عاصمة الرشيد: " بغداد والشعراء والصور" الذي لطالما وحدّ العراقيين حتى في أوقات خلافاتهم الدموية، فالحكم في بغداد كان يعتبر النص له، فيما المعارضون على إختلاف أطيافهم كانوا يتمسكون به ويبثونه في إذاعتهم .
قرأت للأصدقاء من شعري، وانتقلت لاحقاً إلى قصيدة كنت مغرما بها من ديوان "الطائر الخشبي" لحسب الشيخ جعفر الذي كنت أحب فيه "انكساره"، وكان البرد يتسلل إلينا، فنعانده بالغناء، وكانت معنا فتاة ألتقيها للمرة الأولى، وهي تجيد غناء فيروز وتختار لها الأكثر عذوبة من بين غنائها العذب، وتسلل الدفء إلينا مع صوتها مشرقاً مع " سألتك حبيبي" وحملت لنا بحنجرة طرية تشف عن روحية فياضة "فايق ياهوى"، وزاد رقة الليل أنها فضلت أن تغني في جنبات ضوء نحيل أرسلته شمعتان في زاويتين من الصالة الفقيرة الآثاث ولكنها بدت جنة الحالمين حينها.
من بين السبعة كنا في الجامعة أربعة، فضلنا النوم حتى وقت متأخر، فيما تركنا نستسلم إلى النوم صاحب البيت وزوجته اللذان ذهبا إلى عملهما في دائرة حكومية، بينما غنت الفيروزية الهوى، وهي تعد كوباً من الشاي في المطبخ "دخلك ياطير الوروار" قبل خروجها إلى عملها في "مصرف الرافدين" وخلفها خيط من عطر رقيق تركته يضوع في الممر مابين غرفة النوم والصالة وصولاً إلى الباب الخارجي.
استيقظت على إثر من جمال صباح معطر وموقّع بلحن فيروزي، وقريباً من فراشي وجدت ورقة وفوقها كاسيت: "صباح الخير، إسمع " لولو"، أنا أحبه أكثر من "ميس الريم" وتوقّف عند ألحان زياد الرحباني". وكانت أغنيات المسرحية الغنائية الأخيرة مثار نقاش بين محبي فيروز من الشباب الشيوعيين .
لم أكن استمعت إلى أغنيات مسرحية "لولو" وموسيقاها كاملة، وكانت فرصة مع الشريط للتوقف عند موهبة مبكرة لزياد الرحباني الذي كان أبهرني في موسيقى افتتاح "ميس الريم" وأفرحني أن " اذاعة بغداد" إختارت تلك المقطوعة ولسنوات طويلة لتكون إشارة برنامجها العتيد "ما يطلبه المستمعون"
مرت الأغنيات دون تركيز مني فكنت سرحت مستعيداً (صفاء) وهي تغني على ضوء كان يرتعش على وجهها ويضئ إستدارته وخصلات من شعرها، ومحاولاً مدّ يدي إلى هواء يحمل عطرها كأنني أحاول الإمساك بيدها التي كانت كتبت في الورقة دلعاً لإسمي: علاوي.
تخطيط وقعه أحدهم على بطاقة معرض لكتب انجليزية شهده المركز الثقافي البريطاني بالوزيرية. المفارقة أن التاريخ حمل يوم 22،-2 وهو يوم ميلادي. وعلى موج من رقّة فيروز وحنان أغنياتها، أدمنت اللقاء بصفاء في حديقة " المركز الثقافي البريطاني" الذي تحول ملتقى ثقافياً للشباب الشيوعيين واصدقائهم ولقربه من عدد من الكليات: الآداب والصيدلة وأكاديمية الفنون الجميلة ومن الجامعة المستنصرية أيضاً، غير أنه لم يكن قريباً من كليتي البعيدة جداً والتي كنت أهرب من وحشتها وصرامة دروسها الطبية إلى إيقاع تزينه فيروز بأشواقها، وصفاء بدفء حضورها. أدمنا معاً لقاءات وسهرات وقراءات شعرية وعروضاً سينمائية ومسرحية ورحلات مشتركة مع أصدقاء إلى بساتين وغابات وشواطىء، لم نكن نقارب وصف "المحبين"، لكننا كنا بين الأصدقاء أجمل العشاق، تمسك بيدي وتغني "دقيت طل الورد عالشباك"، نمشي من الوزيرية حيث "البريتش كانسل" مسافة طويلة ثلاث مرات أسبوعياً مخترقين شارع الرشيد المحتفي بنا وبالحياة وصولاً إلى الباب الشرقي ومن هناك تأخذ باصاً الى بيتها في "بغداد الجديدة" لأعود مسافة قليلة حيث أصدقاء ينتظرونني عند مائدة نستعيد حولها نقاشاً فيما خص أبرز الموضوعات التي نشرتها صحيفة " طريق الشعب"، وإذا كانت ضمت قصيدة، فالحوار سيكون تعليقاً عليها. في المكان "ليالي السمر" تنقضّ أغنيات أم كلثوم على الأثر الفيروزي، ويتكفل غناء السهارى الذين غالباً ما يرفعون عقيرتهم، بالغاء أثر الإثنتين معاً.
لم أقل لها أحبك، ولم تقلها لي، غير أننا وصلنا في تجاذب روحينا إلى أبعد من الكلمة وقاربنا معناها، ولم تقف مسيحيتها حائلاً عن أن تشترك في حياتي بالرغم من إسلامي، كنت سعيداً بها مثلما كانت تقول لي "جعلتني أبدو احلى"، كنت أنهض من جلستي مع الأصدقاء وأتصل بها تلفونياً لأقرأ لها بيتاً من الشعر وترد علي غناء "بعدك على بالي"، أو أسألها " هل أحببت نيرودا في مذكراته" لتجيب:"أنا أحب لوركا أكثر". كانت تحب حديثي معها بالتلفون آخر الليل، وكنت أستمع فيما الكلام ينساب رقيقاً منها إلى صوت فيروز، وتختار صفاء أغنيات تناسب الليل، فهناك "عتاب"، "اذكريني"، "رجعت في المساء"، "امس انتهينا" وغيرها، وأسألها كيف تختار هذه الأغنيات وكيف وجدتها مناسبة لوقت متأخر، لتقول: "في هذه الأغنيات سواد الليل وفرصة يمكن الإنسان خلالها لمراجعة مافعله نهاراً، فيها بوح ومراجعة للذات" .
لا جديد فيروزياً في العامين التاليين: 1976 و 1977، وهو ماكان يبعث عند صفاء حزناً ثقيلا، تحاول تخفيف آثاره بأن تذهب الى الكنيسة وتغني "جمعتها الحزينة"، وكانت تبتكر وسائلها الخاصة لمعرفة أخبار فيروز وموقفها من الحرب اللبنانية، وكم أبهجتها لمستي لإخراجها من زعلها على صمت مغنيتها الملائكية، حين حملت لها "لولو" في إسطوانة مزدوجة وعلى غلافها تنساب فيروز بثوب أنيق وبوقفة رشيقة، وردت علي وهي تغازل لون بشرتي"وقف يا أسمر."
الخريف أجمل الفصول عندها، وكانت تكره وجوده في الأدب دلالة على الذبول أو الخفوت، وفي يوم من أواخرخريف 1978 إتصلت بها وكان أن إبتهجت الأشجار بمطر خفيف وقلت"أنا في البريتش كانسل، أنتظرك" فردت مبتهجة الروح "يا أنا .. يا أنا"، وحضرت أنيقة سريعة الخطى، وكانت طافحة بحبور عجيب "ياه ..وحدنا في الحديقة، كم أنا سعيدة بهذا الخريف الجميل"، وكعادتها أمسكت بيدي وقالت "أنت حلو وتكون حلو أكثر إذا تشرّبني كوب نسكافيه بالحليب" وبعد أن خطوت خطوتين سمعتها تغني غير مبالية بالمطر الذي إزداد هطولاً "نسم علينا الهوى" .
شربنا واستمتعنا بدفء لذيذ، وقطعت صفاء إيقاع جلستنا الهادىء الحميم، لتقول بهدوء عجيب: "علي .. سأخبرك أمراً أرجوك لاتناقشني فيه ولاتسأل عن أسبابه، هذه آخر مرة نلتقي فيها"!
وقعت على الفور في بئر عميقة ( لم أخرج منها حتى الآن) ومثلما أرادت، إحترمت رغبتها وأكتفيت بالتدخين والتطلع إلى أغصان الشجرة التي جلسنا تحتها وقطرات المطرالمتعلقة بها تسقط على أكتافنا .
ثلاث سنوات وآلاف الساعات جمعتنا، غير أنني لم أقل لها أحبك ومثلي لم تقلها، غير أننا ودونما إتفاق قلناها معاً ونحن نفترق، ونحن نخطو خارج المكان، بينما كانت صفاء تغني دون أن ترفع رأسها نحوي "سألتك حبيبي"، حتى وصلنا الباب الخارجي واستدارت نحوي لتكرر بصوت مختنق بدموع " أحبك" ورحلت.
تقطعت بنا السبل، وزاد طلبها أن لا أسال أحداً عنها من رعبي، وفاقمت الحملة التي بدأتها السلطة الحاكمة ضد الشيوعيين من الوضع سوءاً، ومثلما الحب رقيق وأنيس في أغنيات فيروز غير أنه يغيب فجأة، ليصبح اكثر عذوبة، غابت صفاء وكان آخر ما وصلني أنها رحلت خارج البلاد للتخلص من الملاحقة وخطر الإعتقال بعد القبض على صديقنا صاحب البيت وزوجته، إختفيت أنا فترة أشهر وتركت الدراسة مؤقتاً ( لم يكن مسموحاً للطالب الجامعي السفر إلا بموافقة خاصة)، وعملت بائعاً للكتب تارة وللأسطوانات والأشرطة تارة أخرى و" كاشير" في مطعم أيضاً، ولكن كل تلك الفوضى لم تخرجني من بئر غياب صفاء وقرارها المفاجىء، غير أنني أدمنت ما أورثتني إياه من غناء فيروزي يؤاخي الروح ولايخذلها، وكنت أغالب حزني بـ"ضوى الهوى قناديلو".
عدت إلى بغداد بعد إسبوع من سقوط الحكم الذي تحولت إلى معارضته علناً اثناء إقامتي خارج البلاد لنحو عشر سنوات، لم أكن منجذباً إلى شيء ضائع، قدر ولعي بالبحث عن فيروز في بغداد، عن فيروزي الشخصية، وبات الأمل بالوصول إلى صفاء يحدوني أكثر من أي وقت على إمتداد 25 عاماً منذ غيابها في خريف 1978، ولا أدري من أين جاء يقيني بالعثور عليها، أتراه الحديث المتواتر عن عودة عراقيين كثر الى البلاد بعد غروب صدام ؟ ولكن وإن كانت من بين عائدين، كيف سأعرفها؟ وكيف سأصل اليها، هل اسأل " الرفاق القدامى" في الحزب الشيوعي؟ هل أتصل برقم هاتفها الذي مازلت أتذكره جيداً؟ أم انها هي التي ستطرق بابي في الصحيفة التي أصدرتها في بغداد على إفتراض انها ستسمع إسمي أو تلمحني معلقاً في إحدى القنوات، لم أفعل وهي لم تفعل، غير أنني وفي نيسان الذي عدت فيه إلى العراق متوهماً خروجي من البئر إياها، عثرت على "سوناتا" ذات صباح بغدادي، وهي تغني في ممر يضوع فيه عطر، "بعدك على بالي" .
بغداد، عمّان
2004